فضيلة العلامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله تعالى - : الحمدلله حمدا كثيرا وبعد ، أن الله سبحانه ذكر في كتابه معيتين: عامة، وخاصة، الأولى في قوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}[1]، والثانية في قوله سبحانه: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}،[2] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[3].
وما أشبههما من الآيات والذي عليه أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالمعية على الوجه الذي يليق بجلاله مع إثبات استوائه على عرشه وعلوه فوق جميع خلقه وتنزيهه عن مخالطته للخلق فهو سبحانه عليٌّ في دنوه قريب في علوِّه فوصفه بالمعية لا ينافي وصفه بالعلو على الوجه الذي يليق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته ولما كانت الجهمية والمعتزلة يحتجون بآيات المعية على إنكار العلو ويزعمون أنه سبحانه بكل مكان أنكر عليهم السلف ذلك وقالوا: إن هذه المعية تقتضي علمه بأحوال عباده واطلاعه عليهم مع كونه فوق العرش.
ولهذا بدأ آيات المعية العامة بالعلم وختمها بالعلم ؛ تنبيهاً لعباده على أن مراده سبحانه من إخباره بالمعية إشعار عباده بأنه يعلم أحوالهم ويطلع عليهم، ولهذا فسر أكثر السلف آيات المعية بالعلم، وحكى بعض أهل العلم إجماع أهل السنة على تفسير آيات المعية بالعلم وإبطال رأي الجهمية والمعتزلة في تفسيرها بأنه في كل مكان، وإنكارهم العلو والاستواء - قاتلهم الله أنى يؤفكون - وبهذا تعلم أن تفسير المعية بالعلم ليس هو قول الشيخ تقي الدين وحده بل هو قول أهل السنة، وقد ذكر رحمه الله في الواسطية ما يدل على وجوب الإيمان بأن وصف الله سبحانه بالعلو والمعية حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة إلى آخره فراجعه إن شئت، ومراده رحمه الله أنه يجب إثبات المعية والعلو فوق العرش على وجه يليق بالله لا يشابه فيه خلقه.
قال الحافظ بن كثير في تفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}[4] الآية ما نصه: (حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك) انتهى.
ولا ينافي ذلك تفسير المعية بالعلم؛ لأن ذلك هو مقتضاها ولازمها فهي حق ومقتضاها: علم الله بأحوال عباده واطلاعه عليهم، وأما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله كسائر الصفات، فإن أهل السنة يؤمنون بأسماء الله وصفاته ويعلمون معانيها، ولكن لا يعلمون كيفيتها بل لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، كما لا يعلم كيفية ذاته إلا هو تعالى وتقدس عما يقوله النفاة والمشبهون علوا كبيرا، ولهذا قال مالك رحمه الله وغيره من أهل السنة: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب. وهكذا يقال في سائر الصفات والله أعلم .
وأما القيام عند دخول الأستاذ فظاهر الأحاديث الصحيحة يدل على كراهته أو تحريمه، كحديث أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد أحب إليهم - يعني الصحابة - من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا لا يقومون إذا رأوه لما يعلمون من كراهيته لذلك) رواه أحمد والترمذي، وقال حسن صحيح غريب.
ولا ينبغي للأستاذ أن يرضى من الطلبة بذلك، لحديث معاوية رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: ((من أحب أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد جيد وقد حسنه الترمذي، وأخرج أبو داود بإسناد فيه ضعف، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا)) وأخرجه أيضا أحمد وابن ماجه، وذكر هذه الأحاديث الحافظ محمد بن مفلح في (الآداب الشرعية) صفحة: (464و465) المجلد الأول.
وقد استثنى بعض أهل العلم من هذه الأحاديث القيام للقادم من السفر للسلام عليه ومصافحته أو معانقته، وكذا من طالت غيبته، واستثنى بعضهم قيام الولد لأبيه لإكرامه والأخذ بيده، وقيام الوالد لولده إذا كان أهلا لذلك، والمراد القيام للسلام والمصافحة، وهذا الاستثناء صحيح، وقد دلت عليه السنة الصحيحة، منها ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابة لما قدم سعد بن معاذ للحكم في بني قريظة: ((قوموا إلى سيدكم)) والمراد: القيام للسلام عليه وإنزاله عن دابته.
وفي الصحيحين أيضا عن كعب بن مالك (أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والناس حوله لما أنزل الله توبته، قام إليه طلحة بن عبيد الله يهرول فصافحه وهناه بتوبة الله عليه، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم) وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها: (كانت فاطمة رضي الله عنها إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قامت إليه فأخذت بيده وقبلته وأجلسته في مجلسها، وإذا دخلت عليه قام إليها النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه).
فهذه الأحاديث صريحة في جواز مثل هذا وأنه لا يدخل في القيام المكروه، وأما ما يفعله بعض الناس اليوم من القيام للأستاذ ونحوه كلما دخل عليهم لتعظيمه لا للمصافحة ونحوها، وإنما يقفون ثم يجلسون تعظيما له واحتراما، فلا شك في كراهة ذلك وإنكاره، وأنه لا يجوز للأستاذ ونحوه أن يرضى بذلك لما تقدم في حديث معاوية وغيره، وأحق الناس بامتثال السنة والتأدب بآدابها هم العلماء والمعلمون وطلاب العلم ورؤساء الناس وأعيانهم؛ لأن الناس يقتدون بهم، فإذا عظموا السنة عظمها الناس، وإذا تهاونوا بها تهاون بها الناس، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو خير الناس وأفضلهم وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وكان لا يرضى أن يقام له بل كره ذلك ونهى الصحابة عنه خوفا عليهم من الغلو ومشابهة الأعاجم في القيام لرؤسائهم وعظمائهم، والله سبحانه يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[5]، وفقنا الله وإياك للعلم النافع، والعمل به والدعوة إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
[1] سورة الحديد الاية 4.
[2] سورة التوبة الآية 40
[3] سورة طه الآية 46.
[4] سورة المجادلة الآية 7
[5] سورة الأحزاب، الآية 21.