الأطفال في بيت النبوة -01 -
 
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
وبعد  : فإن تربية الطفل على الاستقامة ، وتعليمه طرق الفلاح والصلاح ،  وفتح باب  الخير له ، والاكتشاف والمعرفة مهمّةٌ أوكلها الله تعالى إلى  الآباء فقال  تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ  وَأَهْلِيكُمْ  نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا  مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ  شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ  وَيَفْعَلُونَ مَا  يُؤْمَرُونَ )
ولما كان التعاون على الخير أصلا معتبرا في شرعنا ،  فقد أجاز الشرع الحنيف  أن يوكل الآباء غيرهم ليقوموا بجزء من وظيفتهم في  التربية و التعليم ،  فكان المعلمون بهذا الأصل وكلاء شرعيين لأداء مهمتهم  مع الأبناء ، ومن هنا  جاءت القاعدة التربوية لتنصّ على أن المعلم ينزّل  منزلة الأب في التأديب و  التعليم .
وعليه فإن مسؤولية المعلم في  منهج التربية الإسلامية لا تقتصر على مجرد  التلقين ونقل المعلومة ، بل  تتعدى ذلك إلى الرعاية والاهتمام والتهذيب .
ولن يكون ذلك كذلك إلا إذا نزّل المعلم نفسه منزلة الأب في الحرص على خير الأبناء ، فغمرهم بالرحمة وشملهم بعطفه وحبه وعنايته.
ولقد  منّ الله تعالى على هذه الأمة بأن بعث فيهم رسولا منهم ، وكان بهم  رؤوفا  رحيما ، فدلّهم على الخير و النجاة ، وحذرهم من كل الشرور و  المهلكات ،  فكان صلى الله عليه وسلم بأمته أحرص من الأب على ابنه ، والأم  على ولدها ،  ولذا وجب على المعلمين أن ينهلوا من هديه صلى الله عيه وسلم  في التربية و  التعليم ليسلكوا بتلامذتهم المسلك الصحيح ، ويقوموا  بمسؤولياتهم أحسن قيام 
وفي  هذه الصفحة نحاول أن نستعرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع   الأطفال سواء أكانوا من البنات أم الأحفاد أو ربائب أو غيرهم ، لنرتشف من   عبيق سيرته ما يضفي على العملية التربوية الفعالية و النجاح .
 الحلقة الأولى : مع ربيبه عمر بن أبي سلمة
 
 
روى  البخاري في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة قال : ((كنت غلاما في حجر[1] رسول  الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش[2] في الصحفة[3] فقال لي رسول الله  صلى الله عليه وسلم ( يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) . فما  زالت تلك طعمتي بعد))[4] وفي رواية أبي داود[5] : (( ادن بني فسم الله وكل  بيمينك وكل مما يليك )) وفي رواية الترمذي[6] : (( ادن يا بني : و سم الله ،  وكل بيمينك ، وكل مما يليك )).
ففي هذا الحديث مواقف تربوية عظيمة منها :
أولا  : فيه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بسلوك ربيبه عمر بن أبي سلمة  أثناء  الأكل ، والحرص على معالجة خطئه ، حتى لا يصير ذلك عادة سلوكية يصعب  مع  مرور الأيام تركها ، وهذا يدل على أن العملية التعليمية لا تقتصر على  تزويد  الطالب بالمعارف والعلوم بل تقتضي كذلك حل المشكلات ومعالجة الأخطاء   السلوكية. 
ثانيا : طريقة معالجة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لخطأ  عمر بن أبي سلمة  رضي الله عنه بأسلوب الأب المشفق والمعلّم الرحيم ، حيث  ناداه بعبارة فيها  تحننّ وتلطّف وعطف ، فقال له : " ياغلام " وفي رواية أبي  داود " ادن  بنيّ" وفي رواية الترمذي : " ادن يا بنيّ" ، ولاشك أن هذا  النداء يشيع في  النفس الطمأنينة ، ويثير فيها حب الاستجابة وحب التطلع إلى  ما يقوله  المربّي ، وفيه دعوة للمعلمين إلى ضرورة الاعتناء بمخاطبة  تلامذتهم بما لا  يدعوهم إلى النفور والقلق والخوف أو التذمّر ، فليس من  اللائق مناداة  التلميذ –إذا ما أخطأ- بأسماء الحيوان ، أو بألفاظ نابية  تجعله محلّ هزء  بين أصحابه ، وربما أدّى ذلك إلى ردّ فعل سلبي تحوّل مع  مرور الزمن إلى  كره المدرسة أصلا ، فإقرار مبدأ الرفق و الملاطفة في  التعامل مع الأطفال  مسلك نبوي مرعي قال صلى الله عليه وسلم : "((إِنَّ  اللَّهَ لَمْ  يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ  بَعَثَنِي مُعَلِّمًا  مُيَسِّرًا))[7]. 
الثالث : أن النبيّ صلّى  الله عليه وسلم بادر الطفل بالحلّ مباشرة قائلا  له : " سمّ الله وكل بيمينك  وكل مما يليك " ليفهمه بطريق غير مباشرة أنّ  ما كان يفعله خطأ يجب تركه ،  وفي هذا تنبيه للمعلمين إلى ضرورة مراعاة  نفوس التلاميذ ، فلا يُعيٍّرونهم  بأخطائهم ، أو يتوسعون في ذكرها أمام  التلاميذ ، بل يجعلون همّهم إصلاح  الخطأ بأيسر طريق وأنجح سبيل ، وإذا رأى  الأستاذ أن هذا الخطأ قد يتكرر عند  التلاميذ ، فلا بأس من استعمال أسلوب  التعريض ليعمّ التعرّف على المشكلة  وأسبابها وسبل علاجها .
الرابع : أن تعليمه صلى الله عليه وسلم  الطفل آداب الأكل والاهتمام به [8] يدلّ من باب أولى على ضرورة الاعتناء  ببعض الأحكام الشرعية الأخرى التي يحتاج إليها الصبي كالوضوء وأحكام الصلاة  .
الخامس : أن تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم الصغير البداءة  ببسم الله في  الأكل فيه ربط للصبي بالله تعالى ، وأن يعتقد الفضل من الله  تعالى لا  شريك له ، لذلك يستحق أن يطاع ويشكر ، وفي ذلك تنبيه للمعلمين على  ضرورة  الاعتناء بالأصل العقدي والبداءة به ، ليشبّ الأطفال وقد تعلقت  نفوسهم  بالله تعالى.
السادس : أن هذا المسلك التعليمي دلّ على  فعاليته ونجاحه وأثره الطيّب على  الأطفال ، بدليل أن عمر بن أبي سلمة رضي  الله عنه قال بعدها : " فمازالت  تلك طعمتي بعد ." 
_____________________
[1] - في حجر رسول الله : أي في رعايته وتربيته .
[2] - تطيش : تتحرك في كل النواحي و لا تلزم موضعا واحدا .
[3] - الصحفة : القصعة التي يوضع فيها الأكل .
[4]  - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأطعمة باب التسمية على الطعام والأكل   باليمين (5/2056) حديث رقم 5061 ، ومسلم في صحيحه كتاب الأشربة باب آداب   الطعام والشراب وأحكامهما ( 3/1599) حديث رقم 2022 
[5] - أبو داود : السنن ، كتاب الأطعمة ، باب الأكل باليمين ، (2/376) حديث رقم 3777
[6] - الترمذي : الجامع ، كتاب الأطعمة باب التسمية على الطعام (4/28
 حديث رقم 1857
[7] - مسلم في صحيحه برقم 1478
[8] - ويدخل في ذلك آداب النوم والشرب وقضاء الحاجة وغيرها .