عرض مشاركة واحدة
الواثقة بالله غير متواجد حالياً
 رقم المشاركة : ( 2 )
الواثقة بالله
المراقب العام

رقم العضوية : 4
تاريخ التسجيل : Aug 2010
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 8,283 [+]
آخر تواجد : [+]
عدد النقاط : 10
الأوسمـة
بيانات الإتصال
آخر المواضيع
افتراضي

كُتب : [ 12-28-2011 - 11:28 PM ]

21) تغلب الصحابة على شهواتهم وملذاتهم من أعظم أسباب بلوغهم أعالي الدرجات: «حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ». فإذا خلا المرء من الأعذار النفسية أصبح دائماً على أهبة الاستعداد لأي مهمة في خدمة دينه. فينبغي الحذر من وساوس الشيطان فإنه يُشام القلوب فينظر ما تحب، فيضخِّم الشيء القليل حتى يراه الإنسان عظيماً، وهو في الحقيقة دون قدراته بكثير.

قَالَ كَعْبٌ: « فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ».

22) القدرات والإمكانات ليست وحدها مؤدية إلى قيام الأعمال الكبيرة ما لم يصحبها همم عالية. فإمكانات كعب أكثر من إمكانات كثير من الصحابة، ومع ذلك لم يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بل سوّف بالخروج حتى تفارط الجيش.

فالأعمال الكبيرة تعتمد على الهمم أكثر من اعتمادها على الإمكانات، بل إن الهمم توجد الإمكانات، ولعلي أضرب هنا مثالاً من الطلاب الغرباء: علمت أن بعض الطلاب في المدينة يقتطعون شهرياً من مكافآتهم مبلغاً معيناً، ثم يسيرون رحلات في إجازة نهاية الأسبوع إلى ينبع لدعوة بني جنسهم في شركات ينبع الصناعية، ولم يسألوا أحداً أو يطلبوا منه مساعدة، وآخرون يقتطعون من مكافآتهم أيضاً وفي رمضان يشترون تذاكر سفر لعددٍ منهم للسفر إلى بلدهم لتوجيه قومهم وإمامتهم في صلاة التراويح، بينما الشحَّاذون من الطلاب لا يقومون بأي جهد يذكر.

23) التسويف والتأجيل سببٌ في الانقطاع عن تحقيق فرص المسابقة: «أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ». قال الحسن البصري: «أحذركم (سوف)». والتسويف يجعلك دائماً في مربع إدارة الأزمات؛ لأنك تؤخر الأمر حتى تشتد الحاجة إليه فتضطر إلى عمله بأي أسلوب كان. وأسوء حالاً من ذلك من يؤدي به التسويف إلى ترك العمل بالكلية، أو فوات وقته وهو في دائرة التسويف.

24) كان عند كعب - رضي الله عنه - من العلم والمعرفة والرغبة ما حمله على الهم بالجهاز، فلو تكاملت إرادته لتمكن من اللحوق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يرجع، ولكن قدر الله فوق ذلك وكان في ذلك من الخير العظيم والدروس الكبيرة التي استفادت الأمة منها، فرضي الله عنه وأرضاه. والعمل السليم يمر بالمعرفة ثم الإرادة ثم العزيمة، فإذا لم تقو العزيمة تعطلت الإرادة وهكذا. فمتى تكاملت تحقق الهدف بعد توفيق الله، فالمدخن يعرف أن الدخان ضارٌّ، ويريد تركه، ولكن تضعف عزيمته. والمسلم يعرف فضل قيام الليل، ويريد قيامه، ولكن ضعف عزيمته يحول دون تحقق رغبته. ومن هنا تظهر أهمية وعي سياسة التدرج في الاتجاهين: السلبي، والإيجابي.

25) قال ابن القيم: «إن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها، والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت، والله - سبحانه - يعاقب من فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك. قال - تعالى -: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" [الأنفال: 24]، وقد صرح الله - سبحانه - بهذا في قوله: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة" [الأنعام: 110]، وقال - تعالى -: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" [الصف: 5]. وقال: "وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" [التوبة: 115] وهو كثير في القرآن»([1]).

26) لا أحد يعرف ما قدر الله له، فلا يجوز ترك العمل احتجاجاً بالقدر، وأما بعد فوات الأمر وانقضائه وعدم القدرة على تداركه فللمرء أن يعبِّر بأنه لم يُقَدَّر له، كما قال كعب - رضي الله عنه -، وكذلك لا يجوز احتجاج الإنسان بالقدر على ذنوبه ومعاصيه وتقاعسه عن الخير والعمل الصالح.

قَالَ كَعْبٌ: «فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ».

27) صاحب الهمة العالية وإن أخطأ أو ضعف لا يرضى أن يكون مع المتخلفين. «أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ..».وبعض المرموقين في علم أو أدب أو دعوة إذا ضعف وتخلف عن الخير سعى إلى تكوين «مجموعات» ممن يتصفون بصفات الضعف والتخلي عن الخير، فيتحول تحت ظروف التبرير إلى شخص يعيش على هامش الحياة كما يقال، فيلحق بالقطيع والرعاع.

قد هيئوك لأمر لو فطنت له *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل([2]

28) فراسة كعب ومعرفته بأهل النفاق، وهذا مما ينبغي أن يكون عليه المسلم من الوعي والفهم الذي يخوله للتمييز بين المنافق والمؤمن. قال - تعالى -: "وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" الأنعام: 55، فيجب أن يكون عند المسلم بصيرة يميز بها الناس دون إفراط في التصنيف.

29) قوة التربية النبوية وتميزها حيث لم يتخلف إلا صنفان من المجتمع: «مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ».

30) الحزن لا يعتبر عملاً وليس عذراً، كمن يقول: والله حزنت لما تركت ذلك العمل، أو أنني لم أشارككم في الخير. الحزن والتوجع لأحوال المسلمين دون عمل أو مشاركة لا يقدم شيئا، فالبكاء في البيوت لا يزرع تعاطف الناس مع القضية. فلو جلس كعب حزينا في بيته لم يتعاطف الناس معه مثل هذا التعاطف الكبير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار... » ([3]). فنقول: هذا الحزن يزيد فيه الشيطان ويشعر صاحبه أنه أدى شيئاً ما فيرضى به ويقعد عن العمل.

31) يقول كعب: «فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي»، قد يتخلٍف الإنسان عن عمل خير رغبة في توفير الراحة لنفسه، فيعاقب بفقدانها إما بالحزن وضيق الصدر أو غيرهما من الأعراض.

كمثل رجل في جدة توفرت له أسباب الحج ووسائله فتأخر عنه استبقاء لنفسه وطلبا للراحة من الزحام والحر فأصيب أحد أولاده بمرض بقي معه في المستشفى حتى رجع الحجاج، وآخر مثله فصدمت سيارته فارتبط بإصلاحها حتى انتهى الحج، وآخر خرج من صلاة التراويح كسلا واستعجالا للوصول إلى بيته فوجد السيارة مقفلا عليها، فبقي عندها حتى صلى الناس...

تَأَخَّرتُ أَستَبقي الحَياةَ فَلَم أَجِد *** لِنَفسي حَياةً مِثلَ أَن أَتَقَدَّما([4])

قَالَ كَعْبٌ: «وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -».

32) منزلة كعب وشهرته دليل على صدق إيمانه وعظيم بلائه، والعمل الصالح يشهر صاحبه فيفتقد. بخلاف من عمل ليشتهر فإن من بحث عن الشهرة والذكر بَعُد عنه، ومن أعرض عنها أسرعت إليه، وقد يحصل على الشهرة المزيفة متعرض لها بعد تعب وعنت وذلة.

33) بعض الناس إذا غاب رسمه غاب اسمه بل ربما نسي اسمه وهو حي، بينما العلماء والدعاة والمصلحون الذين يخالطون الناس ويحملون همومهم يبقون أحياء في قلوب الناس وإن كانوا أمواتا منذ مئات السنين:

يا رُبَ حيٍ رخام القبر مسكنه*** ورُب ميْت على أقدامه انتصبا

34) التربية النبوية شملت ظلال عطفها كل الصحابة، وكان كل واحد منهم ينال نصيبه من اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عارف بهم وبأحوالهم، ولهذا يفتقد الشخص الواحد من بين جيش كبير، وليس سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كعب لحاجته إليه، فليس في قلة من العدد، حيث حظي بصحبته في هذه الغزوة جميع أصحابه - رضي الله عنهم -.

كثير من أهل الفضل لا يعرفون من طلابهم أو محبيهم إلا عدداً قليلاً الواحد والاثنين، ويزهدون في البقية، ولا يبالون بهم. مع أن تفقد الأصحاب والزملاء من أعظم أسباب الارتقاء والبناء لهم، وإن سأل أحد من أهل العلم عن تلاميذه فغالباً ما يكون عند الحاجة إليه، وتجد في بعض مجالس العلم أو العمل الخيري لا يعرفون الغائب منهم مع أنهم قد يكونون مجموعة صغيرة.

35) طرح السؤال على قومه لأنهم أعرف الناس به، فكعب من بني سلمة، ومعاذ من أبناء عمومته. فينبغي أن يسأل عن الرجل أقرب الناس إليه وأكثرهم به معرفة بعداً عن الغيبة، وقطعاً للقالة في الرجل، وحفظاً للوقت، ووصولاً إلى المقصود.

36) عيَّن كعب وأبهم، فذكر لولده أن رجلاً من قومه نال منه، حتى لا تذهب الأفكار والظنون إلى غيرهم، وأخفى اسمه حتى لا يوغر الصدور عليه، وصرَّح باسم معاذ لجميل فعله. فإنه يحسن إذا تحدثْتَ عن الحسنات أن تنسبها لأصحابها، وأما إذا تحدثتَ عن الأخطاء فأبْهِمْ؛ إذ المقصود التنبيه للخطأ. ومن معالي الأخلاق الصفح عن الأخ إذا صدر منه أمرٌ. فإبهام الذام وإظهار المادح سمة أهل السنة، ولهذا اشتهر عند أهل السنة ذكر المناقب، ولم تذكر المثالب إلا في حال خدمة الدين مثل كتب الجرح والتعديل. قال ابن القيم: «فيه جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية، أو ذباً عن الله ورسوله، ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم»([5]). وهذا الرجل الطاعن في كعب من قومه فلا يتهم بإرادة تنقصه، وإنما حمله على هذا حبه لكعب وغيرته لله.

37) قال ابن القيم: «جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذي طعن في كعب: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، ولم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على واحد منهما»([6]). وأهمية الذب عن عرض المسلم.

قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: «فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَادِمًا».

38) عدم اتخاذ القرار حال الخوف، لأن الشيطان يستغل هذه الحالة باقتراحاته المردية. وهنا ألقى الشيطان عليه الكذب وحاول أن يستغل ضعفه.

ومثلها الفرح الشديد "إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" القصص: من الآية 76. ومثلها الغضب الشديد. ومثلها الحزن الشديد كما خدع الشيطان قوم نوح في عبادتهم للأصنام.

وفي واقعنا تجد الكثير من الناس عند المخالفات البسيطة أول ما يتبادر إلى ذهنه ويلقي الشيطان على لسانه هو الكذب، فلو تجاوز إشارة المرور الحمراء مثلاً تجد الشيطان ألقى على لسانه وفي عقله الكذب والاحتيال على رجل المرور لو أوقفه، وهكذا عند التأخر عن العمل لمدة ساعة أو أقل، ومن الطرائف أن طالبين تأخرا نصف ساعة عن الاختبار فاتفقا أن يقولا للمشرف عجلة السيارة تعطلت، فأدخلهم المشرف قاعة الامتحان ولكنه طلب من كل واحد أن يحدد العجلة التي عوقتهم، فافتضح كذبهم حيث أفاد أحدهما بغير ما أفاد به الآخر. فالشيطان حريص جداً على استغلال ساعات الضعف.

39) حماية الله - تعالى -لعبده المؤمن من مكايد الشيطان ودسائسه، فهذا الصحابي كاد الشيطان أن يوقعه لولا أن تداركه الرحمن برحمته، فمن يأمن على نفسه الفتن والمعاصي التي تعرض له بعد كعب؟ ولا ينبغي للإنسان أن يتمنى البلاء أو يتعرض له، أو يشمت بأهل البلاء لأنه لا يدري ما يقضى له أيصبر أم يفتن. "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" النور: من الآية 21.

40) بعد انتهاء الأعمال يتحسر القاعدون على تقصيرهم في الدنيا والآخرة. هذا ممن وجد في قلبه إيمان، وأما غيرهم فما لجرح بميت إيلام.

41) المعصية تجلب أخواتها، قال بعض السلف: «إذا رأيت من يعمل السيئة فاعلم أن لها أخوات، ومن يعمل الحسنة فاعلم أن لها أخوات»([7])، وهكذا كعب كاد أن يقع في معصية الكذب لولا أن الله وقاه منها وحماه، ولهذا ينبغي قطع سلسلة الذنوب بحاجز التوبة والحسنات الكبار.

42) معرفة أهل الرأي واستشارتهم، وعدم الاستبداد بالرأي. قال بعض السلف: «من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل».

وكثير من الناس اليوم لا يفكر في الاستشارة، وبعضهم يتصور أن الاستشارة تدل على النقص، مع أنها من دلائل الكمال ورجاحة العقل، وكلما كان الإنسان أكثر رشداً كان أكثر استشارة، وكلما ضعف عقله استقل برأيه، ولم يطأ الأرض احدٌ أرشد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أكثر الناس استشارة، ولم تعرف الأمة أرجح عقلاً من الخلفاء الراشدين بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يكثرون من الاستشارة.

43) من رحمة الله بالصحابي كعب بن مالك أن وفقه وأزاح عنه الباطل، وعرفه أنه لا ينجو من سخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكذب، فمن أعظم الأرباح النجاة من المعاصي، قال الحسن: «هانوا على الله فعصوه، ولو أحبهم لرحمهم».

وبعض الناس اليوم لا يفكرون بهذه النعمة الكبيرة التي وقى بها الله من شاء من عباده ووفقهم إلى ترك المعاصي، ولهذا قلما تسمع من الناس من يقول: هنيئا لفلان نجا من الربا، أو ترك المعصية الفلانية، وإنما التهنئة بربح الأموال مهما كان طريقها.

44) الباقيات الصالحات من أسباب الرحمة؛ لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وحسن الخاتمة يحتاج إلى كثرة الأعمال الصالحة، فلعل من أسباب نجاة كعب ما قدمه من الخير وخدمة الإسلام.

وفي المقابل تعرض الفتن على كثيرين، فيفتنون وينكصون على أعقابهم، لأنه لم يقدم من الخير والحسنات ما يكون سبباً لحفظه. وكثير من الانتكاسات (نسأل الله السلامة) ناتجة عن معاصي السر، أو التهاون بالطاعات.

قَالَ كَعْبٌ: «وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ».

45) تقديم الصلاة على كل عمل ومهمة دليل على أهمية الصلاة وعظم شأنها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبدؤه بالمسجد بيان لأهميته وعظيم مركزه وموقعه لدى الأمة، والبدء بالطاعة حال الوصول للبلد شكر لله - تعالى -.

بعض الناس اليوم يتخلف عن صلاة الفريضة بالمسجد حين وصوله إلى بلده بحجة التعب من السفر.

46) ينبغي لأهل العالم أن يعذروه، ولا يطلبوا منه ما يطلب من عامة الناس. لأنه ليس لهم وحدهم، بل مصالح الناس متعلقة به، وإن في مساعدتهم له ووقوفهم معه مشاركة له في أجره.

47) ينبغي للعالم الرباني والأمير النظر في مصالح الناس والبروز لهم في مكان عام، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدأ بالمسجد، ثم جلس للناس، ولم يذهب إلى أي من بيوته.

بعض طلبة العلم إذا جاء من السفر يغلق الجوال والهاتف ويبعد السيارة ويتهرب من الناس، وهنا يظهر الفرق بين بعض العلماء الكبار الذين لهم حضورهم في الساحة، بينما بعض الدعاة تحتاج أن تبحث عنهم بالمكبر، وتجد أهل الحي يقولون: سمعنا أن «الشيخ جاء منذ أسبوع». فالذي ينبغي للعالم والداعية أن يخصص وقتاً معلوماً يجلس فيه لعامة الناس.

48) تدبر هذه الرحلة الشاقة للرسول - صلى الله عليه وسلم -: سفر على بعير وشدة حر وبعد مسافة، ومع ذلك لم يأخذ - صلى الله عليه وسلم - راحة، وكان هذا دأبه - صلى الله عليه وسلم - منذ البعثة كما قال: «ذهب النوم يا خديجة»، وهكذا كان من سار على نهجه. قال عمر بن عبد العزيز لبعض أصحابه القدماء لما قالوا: فرغ لنا يوماً من وقتك، قال: «ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله»([8]).

فالمؤمن العامل لله راحته وفراغه خلوته بربه. ولم يأخذ العالم الرباني عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إجازة قط، بل استمر يعمل مجاناً مدة طويلة وهو مستحق لكامل الراتب تقاعداً.

49) أهل النفاق لا يستحقون أن ينظر إليهم، وذنبهم أعظم من المعاتبة، فالمؤمن يجب أن لا يشغل نفسه بأهل النفاق، بل يركز فكره وطاقته على إصلاح نفسه والارتقاء بمستواها والسعي لإصلاح أهل الإيمان وتقويتهم، فإذا صلح أمر أهل الإيمان لم يضرهم كيد المنافقين. "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا"آل عمران: 120. ولهذا لم يلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاً للمتخلفين من المنافقين على كثرتهم، واهتم اهتماماً شديداً للثلاثة الذين خلفوا.

50) سلاح المتخلفين الأعذار المدعومة بالأيمان، فلكل تقصير عذر.

51) أخذ الناس بالظاهر وعدم الدخول في النيات والمقاصد، مع أن الوحي كان ينزل إلا أن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حكم بظواهر المنافقين.

وإنك لتعجب اليوم من مسارعة بعض الناس إلى الطعن في المقاصد والنيات.

52) في قلة المتخلفين عن الغزوة مع دواعي التخلف دلالة على عظم التربية النبوية الراشدة؛ حيث لم تزد نسبة التخلف عن 2 بالألف تقريباً. وهذه النسبة ليست من الجيس النظامي أو التطوعي، وإنما من جميع القادرين على الجهاد من أفراد الأمة.

وكم يتخلف الآن منا؟ أو كم يحضر منا ميادين الخير والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هذا سؤال يمكن أن يتكرر في كل مجلس من مجالس العلم والعمل الخيري، بل إنك لتتعب كثيراً لعقد مجلس أو اجتماع للعمل الخيري أو التربوي والدعوي، لكثرة المعتذرين.

قَالَ كَعْبٌ: «فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ».

53) مكانة كعب ومنزلته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوة إيمانه أهلته لنيل العتاب، والمعاتبة تكون بحسب الإيمان زيادةً ونقصاً، فينبغي أن نفهم كل شخص على حدة قبل معاتبته. ومنزلة الإنسان وأسبقيته لا تمنع من معاتبته في مقام التربية.

54) أول العلاج استفهام المخطئ، فهنا قال لكعب: «ما خلَّفك؟ ». وكانت عامة توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم - تبدأ من استفهام صاحب القضية، كما قال لحاطب: «يا حاطب ما هذا؟ »([9]).

وعادة بعض الناس اليوم إذا رأى خطأ أن يبادر إلى المعاتبة أو المعاقبة.

55) المحاسبة والتبعات على قدر الإمكانات: «ألم تكن ابتعت ظهرك؟ »، فالواجب على العامة شيء وعلى العلماء شيءآخر… قال - تعالى -: "فاتقوا الله ما استطعتم"([10])، وقال - تعالى -: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"([11])، وكثير من الناس يستدلون بهذه الآيات وهي عليهم لا لهم. فالمراد بالآية استنفاد جميع الطاقات والقدرات وبذل كل الوسع في عمل الطاعات وفعل الخيرات.

56) إظهار كعب من إمكاناته ما يناسب المقام: «ولقد أعطيت جدلاً»، إذ لم يذكر أنه شاعر لأنه ليس له مناسبة، وكثير من الناس يمتلك طاقات وقدرات وإمكانات لا يستخدمها في مكانها المناسب، وقد لا يعرفها فضلاً عن تنميتها واستغلالها.

57) كان عظيم مراقبة كعب لله - تعالى -من أعظم أسباب نجاته. وكثير من الناس يعمل أعمال من لا يراقب الله، فإن كان يعلم أن الله يراه فما أظلمه وأجهله، وإن كان لا يعلم فما أكفره.

58) معرفته أن إرضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً غير كاف إذا لم يرض الله عنه، فالمنافقون حرصوا على الاعتذار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كي يرضى عنهم، وكعب حرص على رضاء الله - جل وعلا -، ففاز وخسر المنافقون. "يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين"([12]). وبعض الغلاة من أهل البدع يعصون الله - تعالى -ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويزعمون أن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكفي، فسيعلمون غدا أنهم قد أسخطوا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وبعض الناس يرقب ما يريد الناس ويعمل به، ويطّرِح ما يرضي الله - تعالى -ولا يبالي فيه، حتى أصبحت حياة الكثيرين من أجل الناس، فإن لبس فمن أجل الناس وإن ركب أو سكن فمن أجل الناس...

59) الإيمان بأسماء الله وصفاته نجاة وقت الشدائد: «لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ»، فاستفاد كعب عملياًّ من معرفته بصفات الله - جل وعلا -، بينما كثير من الناس اليوم معرفته بأسماء الله وصفاته معرفة علمية نظرية، يعلم أن الله يراه ولا ينتهي عن معاصيه، ويعلم أن الله يسمعه ولا يحفظ لسانه عما يغضب ربه.

60) لم يختصر في ذكر خطئه: «ما كنت قط.. »، مع أنه يقف بين يدي أعظم إنسان وأحب شخص إليه، فقد كان واضحاً في الاعتراف. بل قطع على نفسه جميع الأعذار التي يمكن أن يلبسها الشيطان إياه «ما كان لي من عذر»، ونحن لا نجرأ أن نعترف بوضوحٍ؛ بل نلجأ كثيرا إلى التبريرات، واختلاق المعاذير التي نغطي بها ضعفنا وتقصيرنا.

___________________

([1]) زاد المعاد (3/501).

([2]) البيت من بحر البسيط، للحسين بن علي الطغرائي من لاميته المشهورة بلامية العجم.

([3]) مجموع الفتاوى (18/295).

([4]) بيت من الطويل، للحصين بن الحمام الفزاري، كما في التحرير والتنوير لابن عاشور (1/982).

([5]) زاد المعاد (3/501).

([6]) زاد المعاد (3/501).

([7]) تفسير النسفي (1/247).

([8]) الطبقات الكبرى (5/397).

([9]) صحيح البخاري (3/1095)، وصحيح مسلم (4/1941).

([10]) سورة التغابن: 17.

([11]) سورة البقرة: 286.

([12]) سورة التوبة: 96.


رد مع اقتباس